الدكتور أشرف عطية.. يكتب / مصر والعمق الإفريقي

لم يعد العمق الإفريقي رفاهية جيوسياسية يمكن لمصر أن تتعامل معه ببرود أو على الهامش، بل أصبح اليوم مسألة أمن قومي من الدرجة الأولى. فالعدو الصهيو.ني تسلل بخطوات مدروسة إلى إفريقيا منذ عقود، وركز على دول منابع النيل والقرن الإفريقي، في محاولة لحصار الأمة العربية عامة، ومصر على وجه الخصوص، من خاصرتها الجنوبية التي تمثل شريان الحياة عبر مياه النيل. هذه السياسة التوسعية تهدف إلى خنق القاهرة استراتيجياً، وتحويلها من قوة مركزية مؤثرة في المنطقة إلى دولة منشغلة بصراعات وجودية حول أمنها المائي والاقتصادي والجيوسياسي شمالا وجنوبا وشرقا وغربا .فهي ضرورة استراتيجية لمواجهة التغلغل الصهيو.ني وتوازن القوى الدولية
وفي الوقت الذي يسابق فيه شرق آسيا وأوروبا وأمريكا وحتى استراليا وكندا ، الزمن للاستحواذ على الثروات الإفريقية من معادن نادرة، وبترول، وموارد طبيعية هائلة، نجد أن الحضور المصري في القارة لا يزال دون المستوى المطلوب وضعيفا للغاية . هذا التراجع والبعد عن القارة السمراء يفتح الباب أمام القوى المنافسة لتثبيت نفوذها، ويمكّن الكيان الصهيو.ني من بناء تحالفات مضادة لمصالح مصر.
لقد آن الأوان أن تستعيد مصر مكانتها الطبيعية في إفريقيا، ليس فقط باعتبارها دولة جوار، ولكن باعتبارها جزءاً من التاريخ والهوية والمصير المشترك للقارة. إن القارة الإفريقية تنظر لمصر كدولة قائدة ومرجعية وقوة كبيرة عسكريا واقتصاديا وبشريا ، وهذا يفتح الباب أمام القاهرة لبسط نفوذ سياسي واقتصادي وعسكري متوازن، يعيد تشكيل موازين القوى الإقليمية.
والجدير بالذكر أن التواجد المصري في أفريقيا له أبعاد مهمة للغاية تتمثل في :
1. البعد السياسي:
فيجب أن تقود مصر مبادرات دبلوماسية إفريقية فاعلة ، تعزز من التعاون المشترك وتضع حدًا لمحاولات القوى الخارجية اختراق القارة.
2. البعد الاقتصادي:
إن التوجه للاستثمار في البنية التحتية، الزراعة، والطاقة والتعدين في إفريقيا سيخلق شراكات طويلة الأمد ويضمن لمصر دورًا محوريًا في التنمية الإفريقية وسيضيف اضافة كبيرة للنمو الاقتصادي والتوازن الداخلي والخارجي لمصر اقتصاديا .
3. البعد العسكري والأمني:
فإن التواجد الأمني والعسكري المصري، عبر تدريبات مشتركة وقواعد لوجستية، سيعزز الاستقرار الإقليمي ويغلق الباب أمام أي تهديد يخطط له العدو الصهيو.ني له والذي يستهدف مصرا في المقام الأول
4. البعد الثقافي والحضاري:
فمصر بما تمتلكه من تاريخ وحضارة ومؤسسات تعليمية ودينية ، قادرة على لعب دور القوة الناعمة التي تربطها بالعمق الإفريقي روحياً وثقافيا واعلاميا وفكريا .
لذا فإن تفعيل التواجد المصري في إفريقيا لم يعد خياراً، بل ضرورة وجودية لحماية الأمن القومي، والحفاظ على حقوق مصر التاريخية في مياه النيل، والتصدي لمخططات الحصار الصهيو.ني. فعلى القيادة السياسية المصرية اليوم أن تجعل إفريقيا محورًا رئيسيًا في استراتيجيتها، لتتحول القاهرة من موقع الدفاع إلى موقع المبادرة، وتعيد التوازن المفقود في معادلة القوى الإقليمية والدولية.
إن مصر اليوم تقف أمام تحدٍ وجودي لا يقبل التأجيل، فالأمن القومي لم يعد يقتصر على حدودها المباشرة، بل يمتد إلى عمقها الإفريقي الذي يشكل شريان الحياة عبر مياه النيل، وركيزة أساسية لمستقبلها السياسي والاقتصادي.
إفريقيا ليست مجرد جغرافيا بعيدة، بل هي الامتداد الطبيعي للأمن القومي المصري. فيها منابع النيل، وفيها الأسواق الواعدة، وفيها الشراكات التي يمكن أن تحصّن مصر من أي محاولات حصار أو ابتزاز.
فعلي القيادة المصرية أن تسعى الى تواجد سياسي قوي يقود المبادرات الإفريقية ويمنع أي فراغ تستغله القوى المعادية. والعمل على شراكات اقتصادية حقيقية في الزراعة والطاقة والتعدين والبنية التحتية لتكون مصر شريكًا لا غنى عنه. كما لابد من تعزيز التعاون العسكري والأمني لحماية استقرار القارة وقطع الطريق أمام النفوذ الصهيو.ني. ولابد من تفعيل القوة الناعمة المصرية من تعليم وثقافة ودين، لترسيخ الروابط الروحية والحضارية مع شعوب إفريقيا.
لقد حان الوقت أن تتحرك مصر بقوة في إفريقيا، لا من موقع المتابع أو المراقب، بل من موقع القائد وصاحب المبادرة. إن استعادة العمق الإفريقي هو استعادة لمكانة مصر الطبيعية كقوة إقليمية عظمى، ودرعٍ واقٍ يحمي الأمة كلها من محاولات الحصار والتهميش.
وحيث أنني وجدت اهتمام كثير من الدول الافريقية بمصر كدولة قيادية من خلال اعمالي ورحلاتي وشركاتي هناك ، فإنها دعوة للقيادة السياسية المصرية أن تجعل من إفريقيا أولوية قصوى في استراتيجيتها المقبلة، فالمعركة الحقيقية على المستقبل تُحسم هناك، في قلب القارة السمراء.
ولكم مني خالص تحياتي
دكتور / أشرف عطيه



