الدكتور أشرف عطية.. يكتب / التفكير التحليلي والتجرد من التعصب والانحياز

في عالم تتسارع فيه الأحداث وتتشابك فيه المصالح، يصبح التفكير التحليلي والتجرد من التعصب والانحياز ضرورة لا ترفًا. فهما معًا يمثلان أساس العقل الناضج والرؤية المتزنة التي تميز بين الحقيقة والدعاية، وبين الرأي والمعلومة، وبين المبدأ والمصلحة وبين الحق والباطل .
لذا فإن التفكير التحليلي هو القدرة على تفكيك المشكلات والأفكار إلى عناصرها الأساسية، وفهم العلاقات بين هذه العناصر، ثم إعادة تركيبها في صورة منطقية تساعد على اتخاذ القرار الصحيح.
هو نوع من التفكير العلمي المنظم الذي لا يكتفي بالانطباعات أو العواطف، بل يبحث عن الأدلة والبراهين والحقائق الموثقة ، ويزن الأمور بميزان العقل والمنطق.
فعندما يُعرض موقف سياسي أو ديني أو اجتماعي، لا يقف المفكر التحليلي عند ما يسمعه أول مرة، بل يسأل:
ما مصدر هذه المعلومة؟
وما مصلحة من قالها؟
وهل هناك وجه آخر للصورة؟
بهذه الطريقة، يصبح العقل محايدًا في بحثه عن الحقيقة، لا تابعًا لموجة ولا منساقًا خلف رأي الأغلبية.
ان التعصب والانحياز عدو الحقيقةو هما أكبر العقبات أمام التفكير السليم.
فالتعصب يجعل الإنسان يرى فقط ما يؤيد فكرته، ويتجاهل كل ما يخالفها.
أما الانحياز، فهو الميل اللاواعي إلى جهة أو رأي، سواء بدافع العاطفة أو المصلحة أو البيئة التي نشأ فيها الفرد.
وهنا تكمن الخطورة؛ لأن العقل المتحيز لا يبحث عن الحقيقة، بل يبحث عن إثبات رأيه، حتى لو كان ذلك على حساب المنطق والواقع وثوابت الدين . ومن ثم تنتشر الخرافة بدل العلم، والكراهية بدل الحوار، والفرقة بدل الوحدة.
إن التفكير المتجرد مهارة النخبة ، فالتجرد يعني أن يتعامل الإنسان مع كل فكرة بميزان العدل لا الهوى.
فلا يرفض رأيًا لأنه صادر من خصم، ولا يقبل آخر لأنه من صديق أو زعيم محبوب.
إنه نوع من الانضباط العقلي والأخلاقي، يحتاج إلى تدريب طويل وشجاعة فكرية.
قال الفيلسوف الفرنسي فولتير: “قد أختلف معك في الرأي، ولكنني مستعد أن أدفع حياتي ثمنًا لحقك في أن تقول رأيك.”
بهذا المبدأ يقوم المجتمع الحر القادر على التطور، لأن الحوار فيه مبني على احترام العقول لا على فرض القناعات.
ومن هنا لابد ان نستعرض كيف نمارس التفكير التحليلي المتجرد من خلال النقاط التالية :
1. فالنبحث عن المصادر المتعددة قبل أن تتبنى رأيًا.
2. يجب ان نفصل بين الفكرة وصاحبها؛ فالفكرة الجيدة لا تفسد إن قالها من نكره.
3. علينا ان ننتبه لعواطفنا ومصالحنا الشخصية، فهي غالبًا ما تؤثر على الحكم على الاشياء دون وعي.
4. ولندرّب انفسنا على التساؤل والشك المنهجي، فالعقل لا ينمو إلا بالتساؤل.
5. ولنحترم رأي المخالف، فاختلاف الآراء هو ما يدفع الحضارات للتقدم لا للتناحر.
والجدير بالذكر أن المجتمعات التي تشجع التفكير التحليلي وتنبذ التعصب، هي الأكثر استقرارًا وابتكارًا.
ففيها يُمنح الباحث حرية النقد، والسياسي يُحاسب بالعقل لا بالعاطفة، والإعلام يُراقَب بالمنطق لا بالانتماء.
بينما المجتمعات التي يغلب عليها التعصب والانحياز، تظل تدور في دوامة الخلافات، وتُستغل فيها الجماهير بسهولة باسم الدين أو الوطنية أو المصلحة العامة فتنحرف بوصلة المصالح العامة عن اهدافها وتتجه نحو المنافع الخاصة والتي تهوي بالمجتمع الى مكان سحيق .
فالتفكير التحليلي والتجرد من الانحياز ليسا مجرد مهارتين معرفيتين، بل هما قيمة حضارية، تُبنى عليهما العدالة والحرية والنهضة.
فمن أراد أن يكون جزءًا من التغيير الحقيقي، فعليه أن يبدأ من نفسه:
أن يفكر بعقله، لا بانتمائه. وأن يحكم بالمنطق، لا بالعاطفة . وللحديث بقية
ولكم مني خالص تحياتي
د. أشرف عطيه



